الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قالوا ولما قتله رجفت الأرض سبعة أيّام، واسود جلده إعلاما بغضب اللّه عليه والعياذ باللّه، قالوا ولما رجع آدم عليه السّلام من مكة إذ كان غيابه فيها ولم يجد هابيل سأل قابيل عنه، فقال ما أنا عليه بوكيل، قال بل قتلته، ولذلك اسود جلدك، فمكث آدم مائة سنة لا يضحك، ورثاه بكلمات سريانية ووصى شيئا يحفظها، ولم تزل الكلمات تنقل حتى زمن يعرب بن قحطان فعرّبها على ما قيل بهذه الأبيات:
لأنه كان يعرف السّريانية والعربية ومن قال أنه من نظم آدم فقد أخطأ لأن الأنبياء منزهون عن الشّعر، ولأن لغة آدم السّريانية فضلا عن ركاكة هذه الأبيات وإن هذا لفي شك أيضا، لأن الإسرائيلات التي بعد هذا بكثير لا يوثق بصحتها لطول الزمن وعدم الضّبط وقلة الكتاب، فكيف بما صدر عن آدم ولم يدون، وإن قوله ولد هو وأخته في السّماء كان لعدم ثبوت هذا المكان كما ذكر، وإن اللّه لم يذكر عن ذلك شيئا وهي كما ذكرها اللّه فقط، وإن شيث عليه السّلام ولد بعد بلوغ آدم مائة وثلاثين سنة، وبعد قتل هابيل بخمسين سنة، واسمه هبة اللّه بالعربية لأنه خلف عن هابيل، وعلمه اللّه ساعات اللّيل والنّهار، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم من بعده وولي عهده، قالوا وبعد أن عرف آدم أن قابيل قتل هابيل طرده وشرّده وهدده بالقتل إن بقي، فأخذ أخته أقليما وهرب إلى عدن خوفا من القتل الذي سنّه في الأرض، فتصور له إبليس وقال له إنما أكلت النّار القربان الذي قربه أخوك لأنه كان يعبدها، فبنى له بيتا وأوقد فيه نارا وصار يعبدها من دون اللّه، فهو أول من عبدها، وأول من سنّ القتل على وجه الأرض، وأول من خالف أمر اللّه بتزوجه أخته الشّقيقة، واقتدى به من بعده بهذه الخصال القبيحة، فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة ثم انتقم اللّه منه إذ مات برمية من ابن له أعمى، فقال له ابنه قتلت أباك فلطمه وقتله أيضا، قال صلّى اللّه عليه وسلم بشر القاتل بالقتل.قتلوا واتخذ أولاده من بعده آلات الطبل والمزامير وانهمكوا في الملاهي والمعاصي ولم يزالوا حتى أغرقهم اللّه بالطوفان فلم يبق من نسله أحد.قال تعالى: {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ} الواضحات من اخبار من قبلهم فلم يتعظوا بها {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ} الذي كتبناه عليهم من التشديد في عقاب القاتل وشرعنا القصاص على جميع الخلق، وبالغنا فيه بحقهم بان جعلنا قتل النّفس الواحدة كقتل الجميع، ولم ينجح بهم ولم يزالوا وهم {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} أي أكثرهم متجاوزون الحد في العصيان ودائبون على اخلاف الوعد ونقض العهد في حق اللّه تعالى، واستحلوا محارمه وحرموا ما أحله لهم، فلأن يخالفوا أمرك يا سيد الرّسل من باب أولى لأنهم قتلوا طائفة من الأنبياء بغير حق، وهم الآن يترصدون لقتلك مع أنهم مأمورون باتباعك، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفن من دمها لأنه أول القتل من سنّ سنة وقال صلّى اللّه عليه وسلم من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. .مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق: قال تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} إذا قتلوا الأنفس فقط {أَوْ يُصَلَّبُوا} إذا أخذوا المال مع القتل تشديدا للعقوبة {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} اليمنى مع الرّجل اليسرى أو الرّجل اليسرى مع اليد اليمنى إذا أخذوا المال فقط {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إذا وجدوا في الطّريق وأخافوا النّاس أو في البرية أيضا لغاية القتل والنهب والسّلب ولم يقع منهم قتل ولا أخذ مال فينفوا إلى مكان لا يتمكنون معه من القيام بهذه المفاسد، وفي حبسهم معنى النّفي وأبلغ {ذلِكَ} الذي كتبه اللّه على هؤلاء المفسدين من الحد يكون {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا} وهوان بين المجتمع الإنساني، وذل يأنفه كلّ ذي عقل، ويتباعد عنهم كلّ ذي مروءة، وينفر منهم كلّ شهم {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)} عند اللّه إذا ماتوا قبل توبتهم، فإذا تابوا وكانوا مسلمين أو كانوا كافرين فأسلموا وسلّموا أنفسهم لإجراء الحد عليهم فعقوبتهم الدّنيوية هي ما ذكر في الآية وهي كفارة لهم، وإن لم يسلموا أنفسهم وبقوا على طغيانهم فهم في خطر المشيئة، أما الكفار إذا أسلموا بعد ذلك فإسلامهم كفارة لهم لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وإنما يلزم بعده أداء الحقوق الشّخصية فقط {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا} من كفرهم ومحاربتهم للّه ورسوله وتركوا الإفساد في الأرض {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} بأن أمسكتموه وكانوا في قبضتكم، فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم على مطلق الإضافة، أما إذا كانوا قاتلين أو ناهبين، فأولياء القتيل لهم طلب القصاص أو العفو وأخذ الدّية وأهل المال لهم طلبه منهم أو تركه، واللّه تعالى يقبل توبتهم فلا طريق لأولي الأمر عليهم إذا أقلعوا عما كانوا عليه من تلقاء أنفسهم ولهذا قال تعالى منبها على ذلك {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} لأمثال هؤلاء وبعد مغفرة اللّه لا حقّ لأولياء الأمر أن يعاقبوهم لأنهم وكلاء اللّه في أرضه وليس للوكيل أن يفعل شيئا نهاه عنه موكله إذا أسقطه.هذا وإذا كان التائبون قبل القبض عليهم كفرة فلا يطالبون بالقصاص لما ذكرنا من أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تدرا الحدود الواجبة حال الكفر، وذلك ليكون داعيا للاسلام، وإذا علم أنه مطالب بما فعل حال كفره، بعد الإسلام لا يسلم.وحكم هذه الآية عام ومستمر إلى يوم القيامة وإن نزولها بحق جماعة مخصوصين كان شأنهم ذلك لا يقيدها بهم ولا يخصصها فيهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من عكل وعرينة قدموا على النّبي صلّى اللّه عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبي اللّه إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة.فأمر لهم صلّى اللّه عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النّبي صلّى اللّه عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فبعث الطّلب في أثرهم فحلقهم وأخذهم، فاعترفوا لحضرة الرّسول بجرمهم، ولم يبدوا عذرا يدرا الحد عنهم، فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة (محل بظاهر المدينة تحت واقم) حتى ماتوا على حالهم.قال قتادة بلغنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصّدقة وينهى عن المثلة، زاد في رواية قال قتادة فحدثني بن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود قال أبو تلابة فهؤلاء قوم كفروا وقتلوا وسرقوا بعد ايمانهم وحاربوا اللّه ورسوله فأنزل اللّه فيهم هذه الآية وصار العمل عليها حتى الآن والى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.هذا وينبغي صلب مثل هؤلاء المفسدين على الطّريق العام ليكون أبلغ في الزجر، ويختار الحبس على النّفي إذا تيقن أنه يؤذي في المحل الذي ينفى اليه، وإذا تاب هؤلاء المفسدون بعد القبض عليهم فلا تقبل توبتهم لأنها لا تكون خالصة بل للتخلص من الحد وهي توبة لا قيمة لها كالتوبة حال اليأس، لذلك يجب أن تقام عليهم الحدود المذكورة في هذه الآية، قالوا إن داود باشا حاكم العراق في القرن الثاني عشر للهجرة قد اشتهر بالعدل والتقوى وأعمال الخير وأفعال البر وإنشاء الجسور وإصلاح الطّرق وعمارة البيوت للفقراء وبناء المساجد والجوامع والتكايا، وصار يصرف جميع واردات العراق في هذه الجهات وشبهها، وكان له خادم فقتل نفسا فأمر بقتله، فاختفى ثم دخل عند الشّيخ خالد النّقشبندي ذي الجناحين دفين دمشق، فبلغ الشّرطة خبره فحضروا ليأخذوه، فلم يسلمه للشرطة فحضر داود باشا بنفسه وتحاجّ مع الشّيخ وتلا عليه هذه الآية، فقال له الشّيخ إنه تاب قبل أن تقدروا عليه، وتوبته مقبولة بحكم هذه الآية، فلم يقبل الحاكم وطلب تسليمه ليقتله بحكم الآية الأولى، فصاح عليه الشّيخ لا أرسله لك يحكم الآية الثانية، فأغمي عليه ولما أفاق قبل يدي الشّيخ واستعفاه وقبل توبته وأدى الدّية لأهله بعد أن عفا أهل القتيل عنه وقالوا إنه حينما صاح الشّيخ رأى الحاكم نفسه بين يدي سبع يريد أن يلتقمه كرامة من الشّيخ، ولهذا فعل ما فعل، وهذا الحاكم غضب عليه السّلطان لعدم رفع شيء من واردات العراق إلى الخزينة العامة وأرسل من يقتله إذا لم يسلم نفسه اليه، ولما سلم نفسه اليه لم ير السّلطان ما يوجب قتله إذ تبين له أنه صرفها بصورة شرعية، فعفا عنه وأرسله إلى المدينة خادما للحرم الشّريف، فليحسنه فصار يكسو الحجرة الشّريفة بعد المكسة إلى أن توفي رحمه اللّه رحمة واسعة.قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} بفعل الطّاعات والعمل بما يرضيه جل شأنه من صلة الرّحم والتصدق على الأرامل والفقراء وقضاء حوائج العاجزين والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فهذه وما يشبهها كلها وسائل إلى اللّه تعالى تقرب العبد منه وتطلق الوسيلة على الحاجة قال عنترة:وعلى هذا يكون المعنى اطلبوا حاجاتكم من اللّه لا من غيره فإنه بيده مقاليد السموات والأرض، والوسيلة منزلة في الجنّة، قال صلّى اللّه عليه وسلم سلوا اللّه لي الوسيلة فإنها درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو.وجاء في حديث آخر من قال حين يسمع النّداء (الأذان) اللهم رب هذه الدّعوة التامة والصّلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة.واستدل بعض النّاس بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة فيما بينهم وبين اللّه تعالى، وتحقيق الكلام في هذا أن الاستغاثة بالمخلوق الحي وجعله وسيلة بمعنى أنه يطلب الدّعاء منه لا شك في جوازه ولا يشترط فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي اللّه عنهم، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات.أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى اللّه وعند اللّه ومن اللّه فلا بأس به، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه اللّه في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور، وجواز شد الرّحال إليها، أما ما قاله صلّى اللّه عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى اللّه من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها، تدبر {وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} أعداءه لإعلاء كلمته {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار. .مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به: واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها، وقد أشرنا إلى هذا في الآية 58 من سورة الإسراء في ج 1، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب، وكتاب البهجة السّنية للخاني، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر اللّه لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.
|